فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن العربي:

وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، فَلِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ خَبَّأَهَا فِي الصَّلَوَاتِ كَمَا خَبَّأَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ، وَخَبَّأَ السَّاعَةَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَخَبَّأَ الْكَبَائِرَ فِي السَّيِّئَاتِ؛ لِيُحَافِظَ الْخَلْقُ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَيَقُومُوا جَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَيَلْزَمُوا الذِّكْرَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ كُلِّهِ، وَيَجْتَنِبُوا جَمِيعَ الْكَبَائِرِ وَالسَّيِّئَاتِ. اهـ.

.قال أبو حيان:

ورجح كل قول من الأقوال التي عينت فيها: أن الوسطى هي كذا، بأحاديث وردت في فضل تلك الصلاة، ورُجح بعضها بأنها وسط بين كذا وكذا، ولا حجة في شيء من ذلك، لأن ذكر فضل صلاة معينة لا يدل على أنا التي أراد الله بقوله: {والصلاة الوسطى} ولأن كونها وسطًا بين كذا وكذا لا يصلح أن يبنى منه أفعل التفضيل، كما بيناه قبل.
وقد صنف شيخنا الإمام المحدّث، أوحد زمانه وحافظ أوانه، شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن العفيف شرف بن الخضر بن موسى الدمياطي كتابًا في هذا المعنى سماه كتاب كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى قرأناه عليه، ورجح فيه أنها صلاة العصر، وأن ذلك مروي نصًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى ذلك عنه: عليّ بن أبي طالب، واستفاض ذلك عنه، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن عمر، وأبو هريرة، وأبو هاشم بن عتبة بن ربيعة. وذكر فيه بقية الأقاويل العشرة التي سردناها، وزاد سبعة أقاويل:
أحدها: أنها الجمعة خاصة. الثاني: أنها الجماعة في جميع الصلوات. الثالث: أنها صلاة الخوف. الرابع: أنها الوتر، واختاره أبو الحسن عليّ بن محمد السخاوي النحوي المقري. الخامس: أنها صلاة عيد الأضحى. السادس: أنها صلاة العيد يوم الفطر. السابع: أنها صلاة الضحى، حكاه بعضهم وتردد فيه.
فإن ثبت هذا القول فيكون تمام سبعة عشر قولًا، والذي ينبغي أن نعوّل عليه منها هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو: أنها صلاة العصر، وبه قال شيخنا الحافظ أبو محمد، رحمه الله. اهـ.
روى مسلم في أفراده من حديث عليّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا» وروى ابن مسعود، وسمرة، وعائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنها صلاة العصر.
روى مسلم في أفراده من حديث البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى «وصلاة العصر»} فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله، فنزلت: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن مسعود، وأبيّ أيوب، وابن عمر في رواية، وسمرة بن جندب، وأبي هريرة، وابن عباس، في رواية عطية، وأبي سعيد الخدري، وعائشة في رواية، وحفصة، والحسن، وسعيد ابن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء في رواية، وطاووس، والضحاك، والنخعي، وعبيد بن عمير، وزرّ بن حبيش، وقتادة، وأبي حنيفة، ومقاتل في آخرين، وهو مذهب أصحابنا. اهـ.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن مسلم، عن شتير بن شكل عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارًا». ثم صلاها بين العشاءين: المغرب والعشاء.
وكذا رواه مسلم، من حديث أبي معاوية محمد بن حازم الضرير، والنسائي من طريق عيسى بن يونس، كلاهما عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن أبي الضحى، عن شتير بن شكل بن حميد، عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وقد رواه مسلم أيضا، من طريق شعبة، عن الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار، عن علي، به.
وأخرجه الشيخان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وغير واحد من أصحاب المساند والسنن، والصحاح من طرق يطول ذكرها، عن عبيدة السلماني، عن علي، به.
ورواه الترمذي، والنسائي من طريق الحسن البصري، عن علي، به.
قال الترمذي: ولا يعرف سماعه منه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عاصم، عن زر: قال قلت لعبيدة: سل عليًا عن صلاة الوسطى، فسأله، فقال: كنا نراها الفجر- أو الصبح- حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وأجوافهم- أو بيوتهم- نارًا» ورواه ابن جرير، عن بندار، عن ابن مهدي. اهـ.

.قال الطبري:

والصواب من القول في ذلك ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها قبل في تأويله: وهو أنها العصر. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما أمر بالمحافظة عليها أتبعه جامع ذلك فقال: {وقوموا لله} أي الذي له الجلال والإكرام {قانتين} أي مطيعين- قاله الحسن وسعيد بن جبير والشعبي وعطاء وقتادة وطاوس.
وروى الطبراني في الأوسط والإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل حرف ذكر من القنوت في القرآن فهو الطاعة» وقيل: القنوت السكوت، ففي الصحيحين عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في حاجته حتى نزلت {وقوموا لله قانتين} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وقال مجاهد: خاشعين، وقيل غير ذلك؛ وإذا علم أصل معنى هذه الكلمة لغة علم أن المراد: مخلصين، وإليه يرجع جميع ما قالوه، وذلك أن مادة قنت بأي ترتيب كان تدور على الضمور من القتين للقليل اللحم والطعم، وقتن المسك إذا يبس، فيلزمه الاجتذاب والخلوص، فإنه لولا تجاذب الأجزاء لزوال ما بينها من المانع لم يضمر، ومنه امرأة ناتق إذا كانت ولودًا كأنها تجتذب المني كله فتظفر بما يكون منه الولد، أو أنه لما كان المقصود الأعظم من الجماع الولد كانت كأنها المختصة بجذب المني وكأن اجتذاب غيرها عدم، أو كأنها تجتذب الولد من رحمها فتخرجه، وذلك من نتق السقاء وهو نفضه، حتى يقتلع ما فيه فيخلص، ومن ذلك: البيت المعمور نتاق الكعبة، أي مطل عليها من فوق فلو أنه جاذب شيئًا من الأرض لكان إياها لأنه تجاهها، ومن الضمور: التقن- لرسابة الماء؛ وهو الكدر الذي يبقى في الحوض فإنه متهيئ لاجتذاب العكولة؛ ويلزم الضمور الإحكام لجودة التراص في الأجزاء لخلوصها عن مانع، ومنه: أمر متقن، أي محكم، و: رجل تقن- إذا كان حاذقًا بالأشياء، فهو خالص الرأي؛ ويلزمه الإخلاص والخشوع والتواضع فتأتي الطاعة بالدعاء وغيره فإنها جمع الهم على المطاع {أمَّن هو قانت آناء الليل} [الزمر: 9] ونحو ذلك، والتقن أيضًا الطبيعة فإنها سر الشيء وخالصه، ومنه الفصاحة من: تقن فلان، أي طبعه؛ ويلزم الضمور القيام فإنه ضمور بالنسبة إلى بقية الهيئات؛ ومنه: أفضل الصلاة طول القنوت.
والسكوت ضمور بالنسبة إلى الكلام؛ ويلزم الضمور اليبس والذبول ومنه التقن للطين الذي يذهب عنه الماء فييبس ويتشقق؛ والقلة ومنه: قراد قتين، أي قليل الدم، فيأتي أيضًا السكوت والإحكام؛ وإذا راجعت معاني هذه المادة وهي قنت وقتن وتقن ونتق من كتب اللغة ازددت بصيرة في هذا، وإذا علم ذلك علم أن الآية منطبقة على الحديث محتملة لجميع أقوال العلماء رضي الله تعالى عنهم، وذلك أن الصلاة إذا أخلصت لم يكن فيها قول ولا فعل ليس منها وذلك محض الطاعة والخشوع.
وقال الحرالي: القنوت الثبات على أمر الخير وفعله، وذلك أن فعل الخير والبر يسير على الأكثر ولكن الثبات والدوام عسير عليهم، وكان من القنوت مداومة الحق فيما جاء به في الصلاة حتى لا يقع التفات للخلق، فلذلك لزم الصمت عن الخلق من معناه، لأن كلام الناس قطع لدوام المناجاة، ففي إشعاره أن من قام لله سبحانه وتعالى قانتًا في صلاته أقام الله سبحانه وتعالى في دنياه حاله في إقامته ومع أهله، كما يشير إليه معنى آية: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقًا نحن نرزقك} [طه: 32] ففيه إيذان بأن الصلاة تصلح الحال مع الأهل وتستدر البركة في الرزق- انتهى.
وحديث زيد هذا صريح في أن الصلاة في أول الأمر لم تكن على الحدود التي صارت إليها آخرًا؛ فيحتمل أن الفعل كان مباحًا فيها كما كان الكلام، ويؤيده أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي نص بالمنع، وبهذا يزول ما في حديث ذي اليدين من الإشكال من أنه يقتضي إباحة القول والفعل للمصلي إذا ظن أنه أكمل الصلاة أو نسي أنه فيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي فسلم من ركعتين ثم قام إلى خشبة في ناحية المسجد فاتكأ عليها وخرج سرعان الناس، فلما أعلمه ذو اليدين بالحال سأل الناس فصدقوه، فرجع فأكمل الصلاة فإن الحديث غير مؤرخ فيحتمل أنه كان قبل تحريم الأفعال والأقوال بهذه الآية.
ويؤيد احتمال إباحة الأفعال أولًا اتباع الآية بقوله تعالى: {فإن خفتم} أي بحال من أحوال الجهاد الذي تقدم أنه {كتب عليكم} أو نحو ذلك من عدو أو سبع أو غريم يجوز الهرب منه أو غير ذلك {فرجالًا} أي قائمين على الأرجل. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين} ففيه وجوه أحدها: وهو قول ابن عباس أن القنوت هو الدعاء والذكر، واحتج عليه بوجهين الأول: أن قوله: {حافظوا عَلَى الصلوات} أمر بما في الصلاة من الفعل، فوجب أن يحمل القنوت على كل ما في الصلاة من الذكر، فمعنى الآية: وقوموا لله ذاكرين داعين منقطعين إليه والثاني: أن المفهوم من القنوت هو الذكر والدعاء، بدليل قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اليل ساجدا وَقَائِمًا} [الزمر: 9] وهو المعني بالقنوت في صلاة الصبح والوتر، وهو المفهوم من قولهم: قنت على فلان لأن المراد به الدعاء عليه.
والقول الثاني: {قانتين} أي مطيعين، وهو قول ابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير وطاوس وقتادة والضحاك ومقاتل، الدليل عليه وجهان الأول: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل قنوت في القرآن فهو الطاعة» الثاني: قوله تعالى في أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 34] وقال في كل النساء: {فالصالحات قانتات} [النساء: 34] فالقنوت عبارة عن إكمال الطاعة وإتمامها، والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها وآدابها، وهو زجر لمن لم يبال كيف صلى فخفف واقتصر على ما يجزئ وذهب إلى أنه لا حاجة لله إلى صلاة العباد، ولو كان كما قال لوجب أن لا يصلي رأسًا، لأنه يقال: كما لا يحتاج إلى الكثير من عبادتنا، فكذلك لا يحتاج إلى القليل وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلم والرسل والسلف الصالح فأطالوا وأظهروا الخشوع والاستكانة وكانوا أعلم بالله من هؤلاء الجهال.
القول الثالث: {قانتين} ساكتين، وهو قول ابن مسعود وزيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة فيسلم الرجل فيردون عليه، ويسألهم: كم صليتم؟ كفعل أهل الكتاب، فنزل الله تعالى: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
القول الرابع: وهو قول مجاهد: القنوت عبارة عن الخشوع، وخفض الجناح وسكون الأطراف وترك الالتفات من هيبة الله تعالى وكان أحدهم إذا قام إلى الصلاة يهاب ربه فلا يلتفت ولا يقلب الحصى، ولا يعبث بشيء من جسده، ولا يحدث نفسه بشيء من الدنيا حتى ينصرف.
القول الخامس: القنوت هو القيام، واحتجوا عليه بحديث جابر قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: «أي الصلاة أفضل؟ قال طول القنوت» يريد طول القيام، وهذا القول عندي ضعيف، وإلا صار تقدير الآية: وقوموا لله قائمين اللهم إلا أن يقال: وقوموا لله مديمين لذلك القيام فحينئذٍ يصير القنوت مفسرًا بالإدامة لا بالقيام.
القول السادس: وهو اختيار علي بن عيسى: أن القنوت عبارة عن الدوام على الشيء والصبر عليه والملازمة له وهو في الشريعة صار مختصًا بالمداومة على طاعة الله تعالى، والمواظبة على خدمة الله تعالى، وعلى هذا التقدير يدخل فيه جميع ما قاله المفسرون، ويحتمل أن يكون المراد: وقوموا لله مديمين على ذلك القيام في أوقات وجوبه واستحبابه والله تعالى أعلم. اهـ.